التحدّيات الدستوريّة لمكافحة الإفلات من العقاب

4 يوليو 2021


المحاسبة هي أداة أساسيّة لمحاربة الفساد بفعالية، إذ تكمن معادلة النجاح في جعل تكلفة الفساد على الأفراد المعنيِّين من خلال محاسبتهم أكبر بكثير من الفوائد المُحصّلة منه. إلّا أن الواقع المُحزن في لبنان يتمثّل باستمرار الإفلات من العقاب، لا سيّما في قضايا الفساد الكبرى، ما يشير إلى أن الفساد نظامي ومُمنهج، بمعنى أنه لا يحصل عرضياً أو بالصدفة، بل هو الأداة الفعليّة لتشغيل النظام السياسي القائم على التحاصص الطائفي بين أقلّيات اقتصاديّة-سياسيّة مُسيطرة داخل كلّ طائفة تتحكّم بالمواطنين والسلع والخدمات العامّة التي توفّرها الدولة، بحيث يُعاد توزيعها وفق أسس زبائنيّة وممارسات فاسدة على أتباع السياسيين.

لا تقتصر أعمال الفساد في هذا النظام على الجرائم الجنائيّة الصغرى أو الكبرى، مثل الرشوة أو اختلاس الأموال العامّة أو الإثراء غير المشروع، بل تمتدّ إلى ممارسات وأعمال فاسدة مُشرّعة بقوانين أو مراسيم، أي ما يُعرف بـ "الفساد المقونن"، وتنطوي على إساءة استخدام الوظيفة العامّة لتحقيق مكاسب خاصّة لصالح أتباع السياسيين سواء من خلال الخدمات المُقدّمة أو المنافع العامّة الموزّعة بما فيها الوظائف العامّة والأراضي العامّة والعقود العامّة.

يقيّم هذا المقال أحكام الدستور وتفسيراته وممارساته، وما إذا كانت العامل المُسبِّب أو المُعزِّز أو المُسهِّل لهذه الحالة المُمنهجة من الفساد والإفلات من العقاب، ويقترح بعض التوصيات وإجراءات المتابعة.

الدستور والتفسيرات والممارسات والثقافة

لا يجوز أن ننحدّ بنصوص الدستور التنفيذيّة عند تقييمه، بل توسيع المراجعة لتطال الكتلة الدستوريّة بكاملها، والتي تضمّ مقدّمة الدستور وعدد من القوانين الأساسيّة الواردة فيه مثل قانون الانتخابات، والأنظمة الداخليّة للبرلمان والحكومة، والقوانين المُنظّمة للسلطة القضائيّة، والمجلس الدستوري، والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وديوان المحاسبة.

ولا يفترض أن يقتصر التقييم على النصّ كما ينبغي تفسيره، بل أن يطال الممارسات السياسيّة التي تَحِيد في أحيان كثيرة عن روحيّة النصّ والمبادئ الدستوريّة، وتُعرَف بـ "التعديلات الدستوريّة الصامتة"، إذ تَنتُج عن ثغرات قانونيّة وتفسيرات وممارسات خاطئة، أو نقص فيها، وهي طبعاً لا تأتي بالصدفة بل غالباً يكون وجودها مُتعمّداً ومقصوداً.

المبادئ والأدوات الدستوريّة للرقابة والمحاسبة

يشدّد الخطاب السائد عن وضع حدّ للإفلات من العقاب بالوسائل الدستوريّة، على الدور المهمّ الذي يجب أن يلعبه القضاء المُستقلّ، من دون التركيز على وسائل الرقابة والمحاسبة الدستوريّة الأخرى، أي الشعبيّة والبرلمانيّة والماليّة.

تعابير مُشوّهة عن السيادة الشعبيّة

ينصّ الدستور على أن الشعب هو مصدر جميع السلطات أو فروع الحكم، إلّا أن الواقع يشوّه هذه السيادة ويعبث فيها.

انتخابات مشوّهة ومزوّرة: تشكّل الانتخابات الحرّة والنزيهة والمُنتظمة الأداة الشعبيّة النهائيّة للمحاسبة، إلّا أنها شوِّهت بانتظام لصالح زعماء الأوليغارشيّة الحاكمة الذين نجحوا في التحكّم بنتائج الانتخابات. لم يتمّ العبث في اختيار الدوائر والنظام الانتخابي فقط، إنّما أيضاً بالعديد من الطرق والوسائل للتحكّم بالنتائج مثل الأدوات المُستخدمة لإدارة الانتخابات، والضوابط غير الفعّالة الموضوعة على تمويل الحملات الانتخابيّة ووسائل الإعلام، والضغط على الناخبين عبر وسائل مختلفة.

الزبائنيّة: يُفترض أن المواطنين أحرار ومتساوون في ممارسة دورهم السياسي، إلّا أن الزعماء يُحْكِمون قبضتهم عليهم بوصفهم زبائن، من خلال ممارسات مُعقّدة تشبك بين الفساد والطائفيّة مثل تحاصص السلع والخدمات العامّة، أي الوظائف والأراضي والعقود، بين زعماء الأوليغارشيّة، الذين يعيدون توزيعها على أتباعهم والمحسوبين عليهم سياسيّاً وطائفيّاً.

بروز القوّة الشعبيّة: تُعتبر الرقابة والمحاسبة الشعبيّة المباشرة من الأدوات الفعّالة، وقد تزايد وقعها عبر وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة، وباتت تمارس بوتيرة أكبر منذ انتفاضة 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019، وما تلاها من مظاهرات شعبيّة واسعة تزامنت مع نموّ فعالية منظّمات المجتمع المدني الجديدة والحركات الشعبيّة السياسيّة الناشئة. في الواقع، يخلق العمل السياسي المباشر للمواطنين ضغطاً غير مسبوق على السياسيين سعياً وراء المزيد من المساءلة والمحاسبة ومواصلة محاربة الفساد بفعالية أكبر.

فصل مشوّه بين السلطات

ينصّ الدستور في مقدّمته على أن "النظام [السياسي] يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها"، وهو ما يشكّل، عملياً، أساس الرقابة والمحاسبة الفعّالة، لكن الممارسة القائمة في الواقع عزّزت هيمنة الزعماء على المؤسّسات الدستوريّة عبر آليّات مُبتكرة من خارجها مثل "الترويكا" و"طاولة الحوار"، وتفوّق السلطة التنفيذيّة على الرقابة البرلمانيّة واستقلاليّة القضاء.

ضعف الرقابة البرلمانيّة: نتيجة الجمع بين عضويّة البرلمان والحكومة، لا سيّما في سياق الممارسة السائدة لما يسمّى بحكومات الوحدة الوطنيّة؛ ندرة انعقاد الجلسات البرلمانيّة لمساءلة الحكومة، إذ عُقِد نحو ​​21 جلسة فقط خلال أكثر من 19 عاماً؛ آليّات الرقابة والمحاسبة غير الفعّالة المنصوص عليها في الأنظمة الداخليّة؛ حصر عمليّات الإشراف والرقابة بلجانٍ لا تجتمع أساساً ولا ترفع تقاريرها إلى البرلمان؛ انعدام القدرة على تشكيل أي لجنة تحقيق برلمانيّة؛ وانعدام الشفافيّة في الأنشطة البرلمانيّة، لا سيّما لناحية عدم استخدام نظام التصويت الإلكتروني وتغطيّة العمليّة التشريعيّة مباشرة عبر وسائل الإعلام.

ضعف استقلاليّة القضاء وفعاليّته: والمتصل بعدم استقلاليّة القضاء على الرغم من كونه الفرع الثالث للحكم وفق ما ينصّ عليه الدستور؛ انعدام القدرة على تمرير مشروع قانون مُعلّق يهدف إلى تطوير استقلاليّته وفعاليّته ونزاهته؛ انعدام مماثل في القدرة على تطوير القضاء الإداري أي مجلس شورى الدولة؛ تعيين القضاة الإداريين في مناصب استشاريّة داخل الوزارات؛ الحاجة إلى إصلاح المجلس الدستوري الذي نادراً ما يستخدمه النظام السياسي لمراجعة دستوريّة القوانين، فضلاً عن عيوبه المؤسسيّة العديدة مثل سحب صلاحيّة قبول طلبات تفسير الدستور منه التي أقرّتها تعديلات اتفاق الطائف.

حصانة الموظّفين العموميين

ينصّ الدستور على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، إلّا أن العديد من أشكال الحصانة وآليّاتها تعطي الأفضلية لموظّفي القطاع العام والمسؤولين العموميين.

في الواقع، أصبحت الحصانات معقل الإفلات من العقاب، وعزّزتها الممارسات التعسّفيّة للطائفيّة. ربّما تكون الحماية الممنوحة لرئيس الجمهورية والوزارء المثال الأوضح عن الحصانات المؤسّسيّة والسياسيّة، إذ لا يمكن محاكمتهم إلّا أمام محكمة خاصّة، المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، علماً أن القانون الإجرائي الذي يرعى ولاية المجلس القضائيّة يجعل إمكانيّة عمله أمراً مستحيلاً. فُتِحت نافذة صغيرة أخيراً لتحسين هذه الوقائع القانونيّة وتطويرها عبر تعديلات حديثة طرأت على قوانين الإثراء غير المشروع، سمحت بمحاكمة الوزراء المُتهمين بقضايا مماثلة أمام المحاكم العادية.

رقابة ماليّة غير فعّالة

يعود أساس وجود البرلمانات إلى منطق تاريخي يقضي بممارسته "سلطة الخزينة"، وهي الأداة الأكثر فاعلية للتشريع المالي والضريبي وإقرار الموازنات وفقاً للنصّ الدستوري، إلّا أن الممارسة الفعليّة حدّت من هذه القوّة، إن لم تجعلها غير فعّالة بالأساس.

في الواقع اللبناني، لم يصوّت البرلمان على أي موازنة لأكثر من 10 سنوات، ولم يصوّت على قطوعات الحساب، أي الحسابات الماليّة النهائيّة المُدقّقة للدولة، منذ أكثر من 50 عاماً، علماً أنها لم تُعَدّْ أساساً منذ العام 2005. لطالما اخترع البرلمان صيَغاً وشرّعها للالتفاف على هذا الشرط الموجب أي إقرار قطوعات الحساب قبل التصويت على أي موازنة، وهي ممارسة اعتبرها المجلس الدستوري غير دستوريّة. يضاف إلى ذلك، عدم امتلاكه أية أدوات، باستثناء لجنة المال والموازنة النيابيّة، لممارسة رقابته الماليّة بفعاليّة، إذ يفتقر لوجود مكتب الموازنة المستقلّ إسوة بالعديد من البرلمانات الأخرى.

أخيراً وليس آخراً، كان دور ديوان المحاسبة المنصوص عنه في الدستور غير فعّال أيضاً، لا سيّما لناحية الإشراف على الموازنة والنفقات الماليّة العامّة.

التوصيات

يبدو واضحاً مما سبق أن الممارسة الدستوريّة المشوّهة أضعفت الأداء السليم لآليّات الرقابة والمحاسبة، بحيث أصبح النظام السياسي شبيهاً بـ "سلّة قشّ تُملؤ ماءً"، أي واجهة للقوانين والمؤسّسات مُجرّدة من فعاليّتها التي تشتدّ الحاجة إليها. لا يشير هذا الواقع إلى غياب إرادة محاربة الفساد فحسب، بل على العكس يظهر إرادة مُتضافرة للحفاظ على الفساد المُمنهج، والحدّ من فعاليّة جهود تعزيز المحاسبة والرقابة والشفافيّة، ما يؤكّد على أن الدولة ليست "فاشلة" بل "أسيرة".

طبعاً هذا الواقع ليس قدراً بل يمكن عكس مساره من خلال الإجراءات المناسبة. عملياً، قُدِّم عدد قليل من مشاريع القوانين لمعالجة بعض القضايا التي أثيرت في هذا المقال، كتعزيز الرقابة البرلمانية، تعزيز آليات محاسبة الوزراء، الحد من الافلات من العقاب، تعزيز استقلالية وانتاجية مجلس القضاء الأعلى، القضاء، ديوان المحاسبة والهيئات الرقابية المختلفة.

 كذلك انتهت الحكومة مؤخّراً من إعداد "الاستراتيجيّة الوطنيّة لمكافحة الفساد" التي تتضمّن العديد من الإجراءات الموجّهة لمنع الفساد ومكافحته بما فيها إصلاح القضاء وديوان المحاسبة، لكنّها لم تتطرّق لمعالجة العديد من القضايا الدستوريّة الواردة في هذا المقال، والتي يجب تناولها عبر المزيد من الدراسات العلميّة والحوار، تمهيداً لتطوير استراتيجيّة خاصّة وخطّة عمل لتصحيح التشوّهات العديدة التي تعترض أدوات المحاسبة الدستوريّة.

لا تتطلّب هذه الجهود تعديلات دستوريّة، بل سدّ الفجوات والثغرات في القوانين الأساسيّة التي تشكّل الكتلة الدستوريّة، وتغيير العديد من التفسيرات الخاطئة والممارسات غير السليمة. عسى أن تُطلق هذه الجهود المسيرة الطويلة لتحرير الدولة من ممارساتها الفاسدة وتنهي عقوداً من الإفلات من العقاب.

 تستند هذه المقالة إلى ندوة إلكترونيّة نظّمها برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي وExecutive Magazine في 16 و23 أيلول/ سبتمبر 2020، بعنوان "التحدّيات الدستوريّة لمكافحة الإفلات من العقاب". يمكن الاطلاع عليها عبر الرابط التالي:

https://www.facebook.com/734820073205335/videos/330720224706568 

غسّان مخيبر؛ محامٍ وعضو سابق في البرلمان اللبناني بين العامين 2002 و2018. مستشار رئيسي لبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي الوطني لمكافحة الفساد وحقوق الإنسان.