ضمانات النزاهة في تمويل الانتخابات والأحزاب السياسيّة

عمر كبّول - المسؤول الفني لمشروع مكافحة الفساد من أجل تعزيز الثقة في لبنان التابع لبرنامج الأمم المتّحدة

18 يونيو 2021
يُعتبر المال جزءاً رئيساً من العمليّة الديموقراطيّة كونه يسمح بالمشاركة السياسيّة وتنظيم الحملات الانتخابيّة والحصول على التمثيل الشعبي. إلّا أن المعضلة الأساسيّة تكمن بعدم تنظيم استخدامات هذه الأموال، بشكل فعّال، وتعريض نزاهة العمليّتين السياسيّة والانتخابيّة للخطر، وبالتالي إضعاف المؤسّسات وتهديد الديموقراطيّة.

طبعاً، لا يشذُّ لبنان عن هذه القاعدة، فتشريح العلاقة بين المال والسياسة يُظهِر مدى تجذّر الفساد في النظام اللبناني المكوّن من شبكات زبائينية مُترابطة فيما بينها وعابرة للقطاعين العام والخاص، تهدف إلى تعظيم مكاسبها الخاصّة. من هنا، يأتي التطبيق السليم لقوانين تمويل الحملات الانتخابيّة الصادرة وفقاً لفلسفة قانونيّة مُتشابكاً مع إطار تنظيمي عالمي مُتقدّم للتمويل السياسي.

الفساد كسمة شائعة في الحياة السياسيّة

يَصْعُب تنظيم الفساد المُمنهج عبر الوسائل التقليديّة لتمويل الحملات الانتخابيّة، إلّا أن المحافظة على ضمانات احترام النزاهة في تمويل الانتخابات والأحزاب السياسيّة قد تكون حجرَ الزاوية لإجراء انتخابات تنافسيّة وكفيلاً لإنتاج ديموقراطيّة حديثة فعّالة، لا سيّما عندما تقترن هذه الضمانات مع إجراءات أخرى راسخة للسيطرة على المال السياسي وتمويل الأحزاب السياسيّة.

من هنا، ربّما يستفيد الخبراء من النظر إلى نتائج لبنان على مؤشّرات النزاهة والشفافيّة والمساءلة لفهم التفاعل بين المجالين القانوني والواقعي لتمويل الحملات الانتخابيّة في البلاد، لا سيّما أن الهيئات المُكلّفة بمراقبة الإنفاق الانتخابي مُثقلة بمشكلات كثيرة تحول دون قيامها بوظائفها، بدءاً من افتقارها للإرادة السياسيّة لإجراء مراقبة جدّية وصولاً إلى معاناتها من نقصٍ في فرق الدعم الفعّالة والقوى العاملة ومن شحٍّ في ميزانيّاتها، ما يمنع تعزيز عملها وبالتالي تفعيل صلاحيّاتها وتنفيذ القوانين.

مدى فعاليّة قوانين تمويل الحملات الانتخابيّة

أُدخِل نظام تمويل الحملات الانتخابيّة للمرّة الأولى ضمن قانون الانتخابات رقم 25 الصادر في العام 2008، الذي أنشأ هيئة الإشراف على الحملات الانتخابيّة (الفصل 3، المادة 11)، وربطها بوزارة الداخليّة والبلديّات تحت إشراف الوزير، على الرغم من الدعوات الكثيرة التي أطُلِقت لمنحها الاستقلاليّة الإداريّة والماليّة. خلال تلك الانتخابات، فشلت اللجنة في فرض تنفيذ القوانين المُرتبطة بالإنفاق الإنتخابي، إمّا بسبب قدراتها المحدودة أو الثغرات القانونيّة التي أعاقت عملها. على سبيل المثال، ينصّ القانون على قيام الهيئة بمراجعة الإعلانات الانتخابيّة والتدقيق بها وهو ما لم تتمكّن منه.

في حزيران/ يونيو 2017، أقرّ البرلمان القانون رقم 44، الذي أدخل إصلاحات عديدة على بنود الإنفاق الانتخابي، ساهمت في تعزيز النظام الأساسي لهيئة الإشراف على الحملات الانتخابيّة، التي لم يعد دورها محصوراً بالحملات فحسب، بل توسّعت صلاحيّاتها لتغطّي كلّ مراحل العمليّة الانتخابيّة بما فيها تنظيم الإنفاق الإنتخابي واستخدام وسائل الإعلام، وعُدِّل اسمها إلى هيئة الإشراف على الانتخابات، وبالتالي حصلت على فرصة لتعزيز شفافيّة تمويل الحملات الانتخابيّة، وتمتّعت باستقلاليّة أكبر عن وزارة الداخليّة والبلديات لتأدية وظائفها باستثناء إدارة الانتخابات التي بقيت ضمن صلاحيّات الوزارة. مع ذلك، عانت الهيئة من نقص في الموارد اللازمة للتدقيق بتقارير تمويل الحملات الانتخابيّة المُقدّمة من المرشّحين، ولم تتمتّع بسلطة كافية لفرض العقوبات على المخالفات المُرتكبة.

إلى ذلك، يعرّف القانونان 25/2008 و44/2017 الإنفاق الانتخابي بشكل محدود للغاية، بحيث لا يشمل الإنفاق القائم من خارج حسابات الحملات الذي بقي متفلتاً، ولا يعاقب على التوزيعات النقديّة التي انتشرت بشكل فاضح. أيضاً، وعلى الرغم من الصلاحيّات الممنوحة للهيئة للاطلاع على حسابات المرشّحين المُخصّصة للحملة الانتخابيّة، إلّا أنّها لم تتمكّن من تدقيق حساباتهم الشخصيّة، التي يجرى معظم الإنفاق من خلالها، بحجّة السرّيّة المصرفية التي لم تُرفع عن هذه الحسابات.

في الواقع، أعاقت القيود الإداريّة واللوجستيّة عمل الهيئة، التي احتاجت 4 أشهر لتدقيق التقارير المُقدّمة من المرشّحين بسبب نقص الموارد الماليّة، وواجهت مقاومة شديدة من وسائل الإعلام التي تمنّعت عن تزويدها ببيانات الإعلانات الانتخابيّة المُفترض الإبلاغ عنها قانوناً.

التمويل الخاص والعام للكيانات السياسيّة

واجهت هيئة الإشراف على الحملات الانتخابيّة، ولاحقاً هيئة الإشراف على الانتخاب، مجموعة من التحدّيات المُتجذّرة في نظام التمويل السياسي القائم في لبنان، الذي يوجّه الأموال الخاصّة والعامّة إلى الأحزاب السياسيّة عبر قنوات متفلتة من أي رقابة، ما يسمح لهذه الأحزاب بخرق القوانين بصورة مُنتظمة، واللجوء إلى وسائل غير مشروعة للتأثير على سلوكيّات الناخبين.

وفقاً لشبكة المعرفة الانتخابيّة (ACE)[1]، وهي أكبر مجتمع ومرجع إلكتروني للمعرفة الانتخابيّة في العالم، لم يُفْصَح عن مصادر التمويل الخاص والاشتراكات وتبرّعات الأفراد أو الشركات ومساهمات المؤيّدين، ولم تُنظّم عمليّة استخدام هذه الأموال، وهي حال سائدة في لبنان منذ سنوات، ولو أن حجمها وتأثيرها لا يقارنان بالدعم الأجنبي والموارد العامّة المُستخدمة لتحقيق مكاسب خاصّة مُستدامة.

على سبيل المثال، يتبيّن أن حجم التمويل الأجنبي وموارد القطاع العام أو الدولة المُساء استخدامها يتجاوزان التمويل الخاص من حيث التأثير  والقدرة على الإفلات من المساءلة والتنظيم لعقود. في الواقع، غالباً ما يتخذ هذا التمويل شكل شراء أصوات الناخبين، أو تعزيز العلاقة الزبائنيّة من خلال توظيفهم في القطاع العام، أو تقديم الخدمات لهم مقابل تقييد حرّيتهم في التصويت عبر مؤسّسات مُرتبطة بالسياسيين قامت على هامش الدولة والتفت على عمل وزاراتها في المجالات الخدماتيّة. مع ذلك، لا تحتسب معظم الخدمات المُقدّمة للناخبين ضمن الإنفاق الانتخابي للحملات، لأن القوانين الانتخابيّة تعفي المرشّحين من التبليغ عن الخدمات المُقدّمة من مؤسّسات خيريّة تابعة لهم في حال ثبُت الانتظام في تقديمها منذ أكثر من 3 سنوات قبل تاريخ إجراء الانتخابات.

من هنا، تبرز حاجة مُلحّة لإقرار قوانين جديدة، من ضمنها مشاريع القوانين التي تمنح المجلس الدستوري المزيد من صلاحيّات فرض تنفيذ القانون، بهدف تعزيز الشفافيّة في التبليغ عن مصادر الأموال السياسيّة واستخداماتها. في هذا السياق، أُدرِج مفهوم الشفافيّة في اتفاقيّة الأمم المتّحدة لمكافحة الفساد (UNAC)، التي انضمّ إليها لبنان في العام 2009، وتدعو في المادة 7 (3) جميع الدول إلى "تعزيز الشفافيّة في تمويل الترشيحات لانتخاب شاغلي المناصب العموميّة وفي تمويل الأحزاب السياسيّة حيثما ينطبق الحال".

المضي قدماً

لا ينبغي أن تقتصر عمليّة تحرير الديموقراطيّة والمؤسّسات اللبنانيّة من تأثير المال السياسي على إصلاح قانون الانتخابات فحسب، بل يجب استكمال هذه الخطوة بإصلاحات ومشاريع قوانين أخرى مثل رفع السرّية المصرفيّة عن جميع حسابات المرشّحين وأفراد عائلاتهم، وإعادة النظر في قانون الأحزاب السياسيّة الصادر في العام 1909 (قانون الجمعيّات)، واتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تعزّز دور السلطات التنظيميّة وفق ما تنصّ عليه استراتيجيّة مكافحة الفساد في لبنان 2020-2025، التي تهدف إلى منع الفساد القانوني بشكل رئيسي، لا سيّما في تعيين موظّفي القطاع العام، وإبرام عقود المشتريات العامّة، وآليّة توزيع الأموال العامّة. لذلك تُعدُّ مراقبة مصادر الأموال السياسيّة، العامّة أو الأجنبيّة، التي يحصل على المنتافسين وكيفيّة إنفاقها أمراً بالغ الأهمّية، وبالتالي شرطاً لتعزيز الشفافيّة الماليّة عند ممارسة السياسة.

يقف لبنان راهناً عند مفترق طرق، من أمامه الانتخابات النيابيّة والبلديّة المُقرّر إجراؤها في العام 2022، ومن خلفه الاستراتيجيّة الوطنيّة لمكافحة الفساد الصادرة مؤخّراً، ونتج عنها العديد من الخطط الإصلاحيّة الجادّة التي سوف تمهد الطريق، في حال تطبيقها، لممارسة الحياة السياسيّة بموجب تمويل أفضل وأصحّ. من هنا، يُعدُّ وضع الإجراءات المناسبة أمراً أساسيّاً لتتحكّم الديموقراطيّة في الأموال بدلاً من أن تصبح سوقاً يُسيطر عليها منتهكو الأموال العامّة.

عمر كبّول؛ المسؤول الفني لمشروع مكافحة الفساد من أجل تعزيز الثقة في لبنان التابع لبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي، عمل سابقاً مديراً تنفيذيّاً للجمعيّة اللبنانيّة من أجل ديموقراطيّة الانتخابات (LADE).

[1] www.aceproject.org