الشفافيّة والمساءلة في المساعدات الدوليّة حالة لبنان

رانية عويضة مارديني

4 يوليو 2021


ترتفع مخاطر حدوث فساد في البلدان التي تتدفّق إليها الأموال. هذه الحقيقة مُثبتة في كلّ العالم، وبالتالي لا تشذُّ المساعدات الدوليّة، للأسف، على الرغم من النوايا الإنسانيّة الحسنة المدفوعة بها، عن هذه القاعدة، لا بل تزداد مخاطر الفساد المُحيطة بها، وتصبح أكثر تعقيداً في حالة الأزمات، بحيث يتمّ التغاضي أو التمنّع عن تطبيق الكثير من الضوابط المعياريّة، بكلّ بساطة، بحجّة العجلة التي تفرضها الأمور ووقائع التعامل مع تداعيات أي أزمة. في هذا السياق، يُسجّل لبنان معدّلات فساد مُرتفعة للغاية، إذ حلّ خلال العام 2020 في المرتبة 149 على مؤشّر مُدركات الفساد بين 180 بلداً وحصد 25 نقطة فقط من مئة، في حين تساهم شدّة الأزمة الناجمة عن الانهيار المالي والوضع الوبائي وعواقب انفجار مرفأ بيروت في مضاعفة حدّة الفساد. بمعنى آخر، يبدو واضحاً أن مخاطر تبديد المساعدات الدوليّة المُتدفّقة إلى لبنان ليست مرتفعة فحسب، بل آخذة في الارتفاع بسبب الفساد المُستشري! وهنا يبرز سؤال يتكرّر دائماً: ما الذي يمكن فعله؟ وبالتأكيد، هناك ما يمكن وما يجب القيام به.

المساءلة والشفافيّة

تتطلّب إدارة المخاطر رؤية وعملاً جماعياً مُنسّقاً في كلّ مرحلة من مسار تدفّق المساعدات الدوليّة لضمان المساءلة والشفافيّة في توظيف أموال المانحين. في هذا السياق، تُعتبر البيانات الموثوقة والدقيقة وإمكانيّة الوصول إليها الشرط الرئيسي لتحقيق الشفافيّة والمساءلة، ومُحرّك التعاون القائم بين برنامج الأمم المتحدة الانمائي، الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي من أجل تطبيق إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار (3RF)، الذي يقدّم "مجموعة إصلاحات مُتسلسلة ومُحدّدة وهادفة تدعم التعافي وإعادة الإعمار في القطاعات الرئيسية على المدى القصير"[1]، عبر التركيز على ثلاث أولويات استراتيجيّة، إحداها مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة والشفافيّة من خلال "إنفاذ قانون حقّ الوصول إلى المعلومات وخطّة العمل المُتّصلة به كجزء من التطبيق الفعّال والمُنسّق للاستراتيجيّة الوطنيّة لمكافحة الفساد"[2]. في الواقع، يُعدُّ قانون حقّ الوصول إلى المعلومات الصادر في العام 2017، أداة قانونيّة قيِّمة يجب استخدامها بشكل استراتيجي خدمة لهذا الهدف، بحيث يؤدِّي كلّ من المجتمع المدني ووسائل الإعلام وظيفة أساسيّة تكمن برصد عملية التنفيذ ومراقبتها، بالإضافة إلى زيادة وعي السكّان بالقانون وتعبئتهم للضغط باتجاه تطبيقه.

أيضاً تُعدُّ إدارة مخاطر الفساد من المُتطلّبات الرئيسيّة لتعزيز الشفافيّة والمساءلة، وهو ما يستلزم وضع آليّة مُفصّلة لتحديد المخاطر، وتقييمها بالمقارنة مع الفوائد المقابلة، والعمل على الحدّ منها، وأخيراً مراقبة تطوّرها. عملياً، تحول هذه الآليّة دون هدر الموارد المُتاحة وإساءة استخدامها، بدلاً من خوض غمار التحقيق بكيفيّة توظيفها بعد تبديدها وقياس تأثيرها على الموارد التنظيميّة. ويُعتبر هذا النهج فعّالاً من حيث التكلفة لمعالجة الفساد، وبُعداً رئيسياً للاستراتيجيّة الوطنيّة لمكافحة الفساد، وكذلك لإطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار الذي تدعو ركيزته الأولى، أي تعزيز الحوكمة الرشيدة وآليّات المحاسبة، إلى إجراء تقييمات سريعة لمخاطر الفساد في "القطاعات الرئيسيّة لإعادة الإعمار" عبر استخدام "طرق شاملة ومنهجيّات مُتخصّصة" كوسيلة "لتقليل فرص هدر الموارد المُخصّصة لإعادة الإعمار، وإبعادها عن الاستقطاب السياسي، وبالتالي تعزيز ثقة الجمهور في جهود التعافي"[1].

دور المجتمع المدني

في الواقع، يتطلّع العالم، وكذلك اللبنانيون، إلى اتجاه المجتمع المدني نحو لعب دور أكبر من مُجرّد المراقبة أو زيادة الوعي. وهو ما يظهر جليّاً في إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، الذي يشير صراحة إلى مشاركة الجهات الفاعلة في المجتمع المدني كأولويّة وعامل نجاح حاسم، سواء في سياق الحوار رفيع المستوى، أو منتديات صنع القرار، أو الترتيبات المؤسّسية لإطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، أو الإشراف على التنفيذ.

في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أن في بلدٍ مثل لبنان، حيث باتت الكوارث سمة طاغية في كلّ مفاصل تاريخه، أتت جهود إعادة الإعمار بعد انفجار بيروت مدفوعة بشكل شبه الكامل من جهات فاعلة غير حكوميّة.. وهنا، يبرز اتجاه عام لتوظيف أموال المانحين عبر قنوات المنظّمات غير الحكوميّة، التي يتوقّع أن تساهم بفعاليّة في تقييم مخاطر الفساد انطلاقاً من رؤاها المُتعمّقة في السياق اللبناني، وبالتالي تصميم استراتيجيّات فعّالة وموجّهة للحدّ منها في كلّ مرحلة من مسار تدفّق المساعدات الدوليّة، لا سيّما أن إدارة المخاطر تُعدُّ مكوّناً رئيسيّاً لإطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعماره.

غنيٌّ عن الذكر أنه يُتوقَّع من المنظّمات غير الحكوميّة تقديم نموذج للسلوك الشفّاف والأخلاقي كوسيلة لتعزيز المنافسة العادلة في الحصول على التمويل الدولي، وهو ما يتطلّب: 1) تقديم تقارير شفّافة في المهل المُحدّدة تتضمّن بوضوح الخطط والميزانيّات والآليّات المُستخدمة والمستفيدين ومعايير التشغيل (ما هي المساعدات المُتاحة؟ لمن خُصِّصت؟ وبأي كمّيات؟)، وتحليل فعالية التكلفة اللاحقة؛ 2) الحفاظ على آليّات واضحة وفعّالة وسرّية لتقديم الشكاوى من أعضاء المجتمع المحلّي؛ و3) الخضوع لتقييم طرف ثالث أو على الأقل إبداء الاستعداد لذلك. في الواقع، لا تُعزّز هذه الممارسات الثقة فحسب، بل تزرع أيضاً بذور ثقافة الشفافيّة والمساءلة في المجتمع بحيث تصبح مطلوبة بشدّة، وكذلك تحسّن أداء منظّمات المجتمع المدني ونزاهتها، لذلك لا ينبغي اعتبار أي منهما أمراً مفروغاً منه. في الحقيقة ان منظمات المجتمع المدني المرتبط بسياسيين لا تعدو كونها مجرّد أداة توزيعيّة تستخدمها النخب السياسيّة لمواصلة ممارساتها الفاسدة وتعزيزها. بالتالي، تُعتبر الشفافيّة في ممارسات المنظّمات غير الحكوميّة وعمليّاتها عنصراً أساسياً لنجاح الجهود المموّلة بمساعدات دوليّة. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن المسؤوليّة تقع على عاتق المانحين للمطالبة بهذه الشفافيّة وفقاً لأفضل الممارسات الدوليّة المُتبعة ومحاسبة المنظّمات غير الحكوميّة تبعاً لها.

الاستجابة قصيرة المدى في مقابل إعادة الإعمار على المدى الطويل

بناء على ما سبق، من الواجب توخي الحذر من  تحويل لبنان إلى "دولة المنظّمات غير الحكوميّة"، لا سيّما أن تحكُّم هذه المنظّمات بالتمويل المُتاح وتنفيذ العقود عبر القطاع الخاص لا يخلو من المخاطر ولا يحول دون تفاقمها. مثالاً على ذلك، تلاعب جهات فاعلة في القطاع الخاص بالأسعار في قطاع الرعاية الصحّية خلال تفشّي الوباء العالمي، بما يُرتب مستقبلًا مسؤوليّة على المجتمع الدولي والحكومات في التأكّد من مواءمة الشركات الخاصّة للمعايير الدوليّة قبل منحها أي عقود في حالات الأزمات وإعادة الإعمار. بمعنى آخر، حتّى في حالات فقدان الثقة بالدولة، لا يمكن لأي شعب أن يتخلّص من دورها، لا سيّما أن هناك العديد من الوظائف التي تنظّم التعاملات اليوميّة لا يمكن لأحد أن يقوم بها باستثنائها، مثل صياغة القوانين وإصدارها، والحفاظ على النظام وتحصين الجهاز القضائي. مع ذلك، في ظلّ هذا المنعطف الحرج التي يمرّ به لبنان، وفيما الدولة مشلولة بالكامل بسبب الجمود السياسي المديد والفساد المُستشري، يبقى التمييز المُعتمد في إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار بين الاستجابة قصيرة الأجل وإعادة الإعمار على المديين المتوسّط ​​والطويل السبيل الوحيد للمضي قدماً؛ إذ ربّما يكون تقديم المساعدات عبر قنوات المجتمع المدني وفق آليّة شفّافة خاضعة للمراقبة هو الوسيلة الوحيدة للاستجابة السريعة وحماية الأشخاص المُهدّدين بسبل عيشهم على المدى القصير، أمّا بالنسبة لإعادة الإعمار والتعافي على المديين المتوسّط ​​والطويل فهناك حاجة لإشراك الحكومة اللبنانيّة وفق ما ينصّ عليه إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، أي بموجب شراكات تجمع مختلف أصحاب المصلحة بما في ذلك القطاع العام والجهات الفاعلة في المجتمع المدني، بحيث يكون لكلّ منهم دور في التأسيس لنظام سليم يضع الضوابط ويقيم التوازنات. وأخيراً، يكمن الشرط المُسبق لتحقيق ذلك في استعادة الحكومة لشرعيّتها عبر الالتزام الواضح والصريح بمعايير الحوكمة الرشيدة وإطلاق ورشة إصلاح الإدارة الماليّة العامّة في سياق الاستراتيجيّة الوطنية لمكافحة الفساد لعام 2020. وبالتوازي مع إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، سوف تعتمد مشاركة الحكومة في المرحلة الأخيرة على نتائج تقييم المخاطر القطاعيّة، التي سوف تلعب الجهات الفاعلة في المجتمع المدني دوراً حاسماً فيها من خلال التلبيغ عنها انطلاقاً من دورها الرقابي. وبطبيعة الحال، يتطلّب الإصلاح الحقيقي وجود سلطة قضائيّة مُستقلّة ومؤسّسات مستقلّة كضمانة لسيادة القانون.

في الخلاصة، تواجه المساعدات الدوليّة المُتدفّقة نحو لبنان مخاطر فساد كبيرة، تتطلّب إدارتها اتباع نهج استراتيجي دقيق من مختلف أصحاب المصلحة، للاستجابة للكوارث على المدى القصير وإعادة الإعمار والتعافي على المدى الطويل. وهنا، يُعتبر المجتمع المدني أحد أصحاب المصلحة الرئيسيين في كلتا المرحلتين، وبالتالي يفترض أن يقدّم نموذجاً عن السلوك الشفّاف والأخلاقي، وكذلك تُعتبر الدولة أيضاً، التي يتوقّع أن تشارك في المرحلة الأخيرة، إلّا أن ذلك يتوقّف على جهودها المبذولة لاستعادة ثقة الناس، بحيث يُعدُّ تطبيقها للاستراتيجيّة الوطنيّة لمكافحة الفساد لعام 2020 خطوة ضروريّة في ذلك.

رانية عويضة مارديني؛ خبيرة دوليّة في مجالات المحاسبة الدوليّة، وإدارة الماليّة العامّة، ومكافحة الفساد. عضو في الهيئة التعليميّة في كلّية سليمان العليّان لإدارة الأعمال في الجامعة الأميركيّة في بيروت. مستشارة لدى المكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي في الدول العربيّة، وفريق عمل المُنظّمة الدوليّة للأجهزة العليا للرقابة الماليّة والمحاسبة (INTOSAI) المعنيّة بدعم الأجهزة الرقابيّة وتدريبها. عضو في الهيئة الدوليّة لتعليم المحاسبة التي تقدّم المشورة للاتحاد الدولي للمحاسبين (IFAC) ولرئيس مجموعته الاستشاريّة لتعليم المحاسبة في القطاع العام.

  1. تستند هذه المقالة إلى ندوة إلكترونيّة نظّمها برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي وExecutive Magazine في 9 أيلول/ سبتمبر 2020، بعنوان "الشفافيّة والمساءلة في المساعدات الدوليّة". يمكن الاطلاع عليها عبر الرابط التالي:https://www.lb.undp.org/content/lebanon/en/home/projects/anti-corruption-for-trust---lebanon-/transparency-and-accountability-in-international-assistance.html
  2. لبنان، إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار (3RF)، كانون الأوّل/ ديسمبر 2020. يمكن الاطلاع على التقرير http://documents1.worldbank.org/curated/en/948021607068524180/pdf/Lebanon-Reform-Recovery-and-Reconstruction-Framework-3RF.pdf عبر الرابط التالي:
  3. المرجع نفسه:

    http://documents1.worldbank.org/curated/en/948021607068524180/pdf/Lebanon-Reform-Recovery-and-Reconstruction-Framework-3RF.pdf
  4. المرجع نفسه:

     http://documents1.worldbank.org/curated/en/948021607068524180/pdf/Lebanon-Reform-Recovery-and-Reconstruction-Framework-3RF.pdf